المقصود هو الجانب الآخر الذي حدث وكان أكثر انحرافاً وأشمل. فالذين رأوا أو نحو المنحى العرفاني الوجداني الباطني الحدسي التخميني.. إلى آخره؛ على مذهب
أفلاطون أثَّر هذا في المتصوفة وفي أشباههم فلم يعد هنالك فرق بين الكشف وبين الإلهام وبين الوحي الذي يوحيه الله تبارك وتعالى، فاختلط النبي بالولي؛ بل ربما جعل بعضهم الولي أعلى درجة من النبي, وهكذا أصبحت المسألة خطيرة جداً إلى حد الخروج من الدين والعياذ بالله، والخروج عن شريعة النبي صلى الله عليه وسلم, وعن كل كتب الله؛ بدعوى أو بزعم أن النبوة مكتسبة يمكن أن تنال عن طريق الرياضة الروحية المتتابعة، كما يفعل الرهبان في
الهند و
الصين وغيرها من
البوذيين -يسمونهم العارفين- ويتحدثون عن ذلك, وظهرت هذه النظرية الغنوصية العرفانية الباطلة، أو الإشراقية الباطلة, وتأثر بها كثير من المتصوفة المشهورين؛ الذين لا مجال الآن للتفصيل في الحديث عنهم بأسمائهم وذكر انحرافهم, وإنما المقصود أن هذا المنحى الخطير أيضاً اتخذ شكلاً مضاداً للمنحى الكلامي والفلسفي والمنطقي؛ فأدى ذلك إلى أن مفهوم النبوة تعتريه شوائب تكاد أن تكون مشابهة لما حدث منذ المراحل الأولى، عندما حدثت أساطير سومر و
بابل والأمم من قبلهم.هنالك تصبح قضية حقيقة النبي والأنبياء حقيقة غامضة مبهمة مشوشة, وفي الإمكان أن يدعيها كل أحد، وبذلك لم يعد هناك أي قيمة -مع الأسف الشديد- للمنهج الرباني الواضح الجلي في الفصل التام بين الألوهية وبين النبوة، وبين مقام النبوة من جهة وبين غيرها من البشر من جهة أخرى، الذين لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكتسبوا ما أوحاه الله تبارك وتعالى إلى الأنبياء، الذين أهلهم بصفات معينة لتلقي علوم من لدنه عز وجل، لا يمكن للعقل البشري أو الجهد البشري ولا العرفان البشري أن يصل إليها بأي شكل من الأشكال.هنا ينبغي أن أنبه إلى أن مثلاً الأستاذ
محمد عبده رحمة الله عليه في:
رسالة التوحيد وقع في خطأ قريب أو يكاد أن يباشر القضية من ناحية الكشف والخطأ، عندما عرَّف الوحي بأنه عرفان يجده الإنسان في نفسه مع يقينه أنه من الله! في الحقيقة أن هذا الكلام أقرب ما يكون للمدرسة العرفانية الغنوصية الحدسية، التي انتشرت وظهرت -مع أنه مع الأسف شيء عجيب! والشيخ
محمد عبده رحمة الله عليه وغفر لنا وله معروف اتجاهه العقلاني المحض، وفي شرحه لكتب العقيدة وفي أيضاً منهجه العقلاني فيما بعد، عندما كاد أو تمرد على كل ما سماه الدراسة في الأزهر وبعبارته: أن يكنس من مخه كل ما تعلمه في الأزهر سواء شرح العقيدة العضدية أو غيرها- فالمقصود أن الشيخ مع المنحى العقلي الذي ينحوه غالباً واشتهر عنه؛ إلا أنه في هذه المسألة لم يستطع أو ربما رأى أنه أقرب إلى الفكر المادي أو العقلي؛ مسايرة للنظريات التي رآها في
أوروبا -مثل نظرية
كونت وأمثاله- أو درسها هناك واطلع عليها؛ فرأى أن يفسر الوحي بما يَقْرُب في الحقيقة من المدرسة العرفانية الغنوصية الأخرى، أصبح مع الأسف الشديد في بعض كتب التفسير كأن للوحي تعريفين! تعريف السلف أو التعريف المأخوذ من القرآن, وتعريف الشيخ
محمد عبده .وهذا من الخطأ، فلا ينبغي إلا أن تكون قضية الوحي واضحة جلية لا لبس فيها ولا غموض ولا تشويش، كما وضحنا من حيث الفصل بين حقيقة الألوهية وبين الحقيقة البشرية، مع وجود الوساطة الملكية بين هذا وبين هذا.فهذه مسألة أحببنا أن ننبه إليها من غير أن يكون منهجنا الخوض في تفصيل الخلاف أو الأخطاء في الفرق الإسلامية؛ لكن ننبه إليها لأننا
عندما نقول: إن المنهج الإسلامي هو الحق في هذه القضايا، فإننا لا نعني المنهج الكلامي, ولا منهج الفلاسفة من إشراقيين أو من منطقيين، ولا نعني به أيضاً منهج المتأخرين في هذه الأمة أو أي فرقة من الفرق؛ وإنما نعني المنهج الصافي النقي, الذي اعتمدناه في كل حلقاتنا بإذن الله تبارك وتعالى، والذي نأتي عليه بالأدلة المباشرة والصريحة والواضحة من الكتاب ومن السنة؛ لنقابل به المنهج الآخر.